الذين نظروا إلى الزمن بوصفه الميزان الأكثر دقة في الحكم على المبدعين لا يجافون الحقيقة في شيء، وبخاصة في المراحل التي تختلط معها المفاهيم وتسود الفوضى ويتراجع النقد إلى خانة المجاملات والمصالح الشخصية والتآزر الشللي. ففي الغالب الأعم ثمة أسماء تنتزع شهرتها وذيوع صيتها من خارج النصوص التي تكتبها وتتولى تسويقها ماكينات حزبية وأيديولوجية، أو عصبيات سياسية وكيانية لا ترى من الفن سوى جانبه الدعائي المباشر. وثمة أسماء أخرى جعلت من النجومية المجردة هاجسها الأول وعملت ليل نهار على تسويق نفسها بشكل مرضٍ، حتى إذا غابت عن الساحة بفعل المرض أو الموت أو تراجع الجهات التي تدعمها تحولت خلال فترة وجيزة إلى أثر بعد عين. يبدو القول الشائع «المعاصرة حجاب» بهذا المعنى غير بعيد عن الحقيقة، رغم أن البعض على مستوى الشعر استطاعوا أن يكونوا نجوم أزمنتهم وأن يعقدوا في الوقت نفسه حلفا وثيقا مع الأزمنة اللاحقة. ويمكن لنا أن نذكر من بين هؤلاء، على سبيل المثال لا الحصر، كلا من المتنبي وأحمد شوقي وبدر شاكر السياب ونزار قباني ومحمود درويش. في الذكرى السادسة لرحيله، وفي مثل هذا اليوم بالذات، يبدو صاحب «ورد أقل» الأكثر حضورا وصلة بواقع فلسطين والعالم العربي الراهن من معظم أترابه الذين رحلوا أو الذين تبقوا على قيد الحياة. يكفي أن نتابع الآن أجهزة التلفزة والإذاعات وأقسام الصحف الثقافية ومواقع التواصل الاجتماعي لكي نتأكد من الحضور الباهر لهذا الشاعر الاستثنائي الذي نتلمس في ضوء قصائده جراحنا النازفة وواقعنا المتصدع ومأساتنا المتجددة، بقدر ما نتلمس احتياطينا من الأمل وتطلعنا إلى المستقبل. ولو كانت نجومية درويش متكئة على الكاريزما التي يمتلكها أو على حضوره المنبري وإلقائه المؤثر لوجب أن تأفل هذه النجومية بمجرد غياب الشاعر الجسدي. ولو كان المقدس الفلسطيني وحده هو السبب في شهرة درويش ومكانته فلماذا لم ينسحب الأمر أيضا على راحلين آخرين مثل فدوى طوقان ومعين بسيسو ومحمد القيسي وسالم جبران وتوفيق زياد. ورغم أهمية هؤلاء بالطبع فإن ثمة فارقا كبيرا، على ما يقول إليوت، بين الشاعر الموهوب وبين الشاعر المتفرد الذي قد لا تنجبه الأمة إلا مرة واحدة كل قرن من الزمن. ودرويش هو من هؤلاء القلة الذين يتمثلون روح عصرهم فيما يصغون إلى أصوات العصور كلها. فعبر السنوات التي انصرمت تتردد أشعاره عن الحب أو الوطن أو الحب أو الحرية أو المقاومة في كل زاوية من زوايا بلاد العرب. ومع حرب غزة الأخيرة لم يجد الناس ما يرددونه أفضل من عبارات «حاصر حصارك لا مفر» أو «أيها المارون بين الكلمات العابرة» أو «على هذه الأرض ما يستحق الحياة». ومن حق محمود درويش أن نقول له في ذكرى رحيله إن قصائده الرائعة هي من بين أكثر الأشياء التي تجعل الحياة قابلة لأن تعاش، والتي ترفع منسوب الفرح والحرية والكرامة الإنسانية على الأرض.